top of page

الدربونة


مقالة الدربونة

 

ولدي الحبيب ...

قد يحين الوقت كي أرحل وأترك لك عالما ليس كما كُنتُ ارجو لكَ فأعذُرني فهذا ليس باستطاعتي رغم إنها كانت اُمنيتي. فلم أستطع أنْ أحافظ على كُل الكُتب التي قرأتها وأنا في العشريناتِ مِنْ عُمري وكُنتُ أتمنى أنْ ترثُها أنت فقد بعتُ أكثرها في ظرف تكرر مائة مرة والباقي مركون على الرف لا يعنيك مافيها فهي لزمان تعتقدُ أنهُ غيرُ زمانكِمُ ولى ولَنْ يعود وستُطعِمُها بعدي للقمامة , لَمْ أستطع أنْ أجعلكَ ترثُ الحديقة التي كُنتَ تلعبُ فيها وأنتَ صغير وتقعُ مائة مرة وتضحكُ ولاتخفْ لأنكَ تعرفُ أن يدَ اُمُكَ ستنتشِلُكَ مهماً سقطتْ فهذه الحديقة ذبلتْ كباقي الذكريات واستبدلتها بـ " كوفي شوب " يقدم اسوء قهوة وشاي شربته في حياتي لكنكم تحبونه ولا أدري كيف !

لَمْ أستطع أنْ اُثنيكَ عَنْ مُسلسلاتٍ تتحدثُ العربية بطريقة الكترونية لَمْ أسمع أقبحَ منها فعذرا يا ولدي فاُذني دربها ونقحها مُدرس اللغة العربية الذي لَمْ أسمعهُ يتكلم معي بلهجتنا العامية كي لا تنهار هيبتهُ وهيبة اللغة. لَمْ أترُك لكَ " كاسيتات " تحوي أغاني موسيقاها أعلى مِنْ صوتُ مطربها كي يغطي فضيحة صوتهِ, أغانينا يا ولدي كانت صوتاً لا يُمكنُ أن يتكرر والموسيقى نهراً عذِباً يسبحُ فيهِ صوتهُ ولا يغرق فيه كحال أغانيكم.

ياولدي القلِق، الكئيب، الخائف، العصبي، الحزين والمتمرد رغم إنكَ تملك عشرة ألعاب إلكترونية مختلفة و " فيسبوك" و " ماسنجر" و" وخمسة إيميلات " لكنك لازلتَ غير مُقتنعاً ومتذمراً؛ فأنا لَمْ أكن أملكُ غير الدربونة فهي كانت مُجّمع العابي ومسرح مُراهقتي ومنبع كبريائي ومصنع رجولتي، فيها لعبتُ " تصاوير" و "دعبل" و حتى " توكي" فقد كان الاختلاط ليس محُرماً ولا عيباً يا ولدي، حيث أخلاقُنا كانت فوق كلُ شيء. في الدربونة تعرفتُ على كُل الأصدقاء الذين لازالوا في حياتي ومنهم من سبقني وتركَ الدُنيا والذين لازالوا أحياء لَمْ أضع عليهم " بلوك " كما الآن تفعلون مع بعضكم البعض لأتفه الأمور، الدربونة يا ولدي علمتني أن اركُض خلف كرة القدم بجسدي وقدمي لا باصابعي وان اُسلِمُ على جيراني بيدي لا بـ “كيبورد" او " آي فون" فبيتنا لَمْ يدخُله الهاتف يا ولدي إلا بعدَ أن أكملتُ الثانوية وكان والدي يجيبُ على كل المكالمات وليس مثلكم لا تجيبون على المكالمات ولا أدري لما تحملون الهاتف إذا! كان الهاتف لا يرن بعد التاسعة مساءً فهذا ازعاج بعُرفِنا يومها ووالدي كان يُراقب بحذر برامج التلفزيون التي كانت أكثر أدباً كي يبقى راسهُ مرفوعاً بين أصحابه ولا يخشى من تربيته لي.

كانت الدربونة هي مدرستي الثانية فعلمتني كيف العب وكيف اتدبر امري وأحُلُ مشاكلي بنفسي ولم يكن الطبيب النفسي شيئاً معروفاً في مجتمعنا يومها. علمتني الدربونة كيف أرتجِلُ ولا أترجل واضحكُ ولا استكين وامشي وراسي مرفوع انظر الى الناس بوجوههم حتى نبدأهم بالسلام ولم ندفنها بين سماعتي الـ "هيد فون" في اذننا ولاندري من يمر بالقرب منا فذلك عيب مابعده عيب. لَمْ استطع ان اقنعك بان تركب " باص المصلحة " أو الـ " فورت " ولمسافات طويلة كي تصل إلى مدرستك آآآه لو كنتَ تدري كم هو لذيذ طعم " باص المصلحة " فقد تعرفتُ فيه على اصدقاء وأُناس عابرين زادوني من علمهم وثقافتهم وتارة من مآسيهم البسيطة آنذاك ولم اكن مثلك مشغول بالـ " بالموبايل " ولا أدري مايدور حولي ولا ماسيحدث لي.

اصدقائي حقيقين واخرجُ معهم واسمع لهم ويسمعون لي وليس اصدقاء الكترونيين لا أراهم إلا على شاشة ال " چات ".

لَمْ أستطع أن أتركُ لكَ " دكتاتورا “يخشى عليك وعلى الوطن مِنَ الأعداء والإستعمار ويوفر لك الأمن كي تلعب كما تشاء لكني سأتركك مع “ ديمقراطية" لا تخشى عليك من شيء وتفخخ لك كل شيء حتى لقمة العيش. كانت " طرمة " المدرسة هي اكبر واجمل ملعب شاهدته في حياتي ولازلتُ اشتهيها كحليب اُمي. كان المُدرس يجول فيها أثناء الفرصة يراقب اخلاقنا ولا يدعها تخرج عن ماكانت في الصف فـ "الطرمة" يا ولدي كانت جزء من الدرس ولم تكن فسحة خارج قانون الصف كما هي اليوم والمُدرسُ أخشاه باحترام وليس كاليوم فهو يخشى أن يصطدم بأبن أحد الذوات من أصحاب الوزارات الملفقة وميليشيات المُرتزقة.

كان مكتوبٌ في وسط جدار المدرسة معلقة أحمد شوقي العظيمة " قِفْ للمُعلمِ وفهِ التبجيلا كادَ المُعلمُ أن يكون رسولا " ولم يكن على الجدار شعاراتٌ تمجدُ حضرة الفقيه ولا خاصرة السفيه ولم يكن التاريخ مزور كالذي تقرأون اليوم . فمدرستي يا ولدي كانت تريد مني ان اكون قدوة وأن اكون رسولها في الناس وليس مثلكم أصبحت المدرسة بعبعاً تتمنون الخلاص منه فخرجتُم جيلاً مهلهلا لا يستطيع فك أزرار القميص ولا يحب قراءة قصيدة.

لَمْ أستطع يا ولدي أنْ أتركَ لكَ وطناً وشعباً مِنْ اُسُود فدربونتنا كانت مليئة بالأساتذة والمعلمين والأطباء والمهندسين، مفكرين وضباطاً يحملون شرف الوطن في عيونهم وليس كاليوم ... وطنا ستعيش فيه غريب كأنك من كوكب مفقود. فالوطن قد تغير إسمهُ من بلاد مابين النهرين إلى بلاد ما بين الأمرين.

لَمْ أستطع أن اُقنعكَ بأن ناظم الغزالي وفؤاد سالم وحسين نعمة وحميد منصور وياس خضر واُم كلثوم وعبد الحليم حافظ هم رموز الغناء وكلنا نعرفهم ونسمعهم بلا تهريج ولم يكن لدينا لا " انترنيت " ولا قناة فضائية كي تصوت لمطربين يقترفون الأغاني بصلافة كما اليوم و تنسوهم في اليوم التالي لأنهم بلا طعم ولا لون ولا رائحة. فناناتنا كُنْ جميلات طبيعياً ولَمْ يكُن في وجوههن أي عملية تجميل ابدا, اذواقنا يا ولدي كانت من عنبر وريحان واذواقكم غادرت المعقول وادمنت التهريج. عُذراً ياولدي إنْ تركتُ لكَ وطناً لايملك نصبا تذكارياً أو تمثالا يُخلدُ أحد عُلمائه او اُدبائه او فنانيه او مُناضليه العظام فكلها اُزيلت يا ولدي بأمر الـ " ديموقراطية " وصار البلد كله يُشبهُ " ساحة الأربعين حرامي " وحتى كهرمانة هجرتْ ساحتها وسكنت " جرمانة "

عُذراً يا ولدي فأنا لم أستطع أن أفهم عصر الـ " بلاي ستيشن" لأنني لازلت مبهورا بالتلفزيون ومالراديو منا ببعيد ولو قلت لوالدي رحمه الله أني أستطيع أن أبعث برسالة إلى أي مكان في العالم خلال ثوانٍ من هاتفي لتهمني بالجنون أو السُكْرّ او يتهمني بالجيمس بوندية لدولة عميلة.

أعذرني يا ولدي إنْ لَمْ أستطع أنْ أشرح لكَ الفرق بين السُنة والشيعة فأنا لَمْ أعرفها مِن قبل ولَمْ أكن اعرف ان اُمُكَ شيعية إلا بعدَ الـ " ديموقراطية" ولاهي كانت تعرف فضحكنا ونسينا. كان المناضلين ياولدي في زماننا معروفين ويتباهون بنضالهم وكفاحهم ولم يُغطوا وجوههم ولَمْ يُكمموا افواههم كاللصوص في هذه الأيام فالنضال ياولدي لَمْ يكُنْ عيباً ولَمْ يكُنْ " إرهاباً " كما يصفهُ الإعلام هذه الأيام. فبلادُنا كانتْ كُلها مناضلين وليس فيها مرتزقة بلا هوية.

ياولدي .. عندما أرحلُ عَنكَ تذكر إنَ بلادُنا أجملُ البلاد حتى في خرابها؛ فمنْ خربها ليس نحن بل مَنْ جاءَ بالـ "الأنترنيت " ومَنْ أخذ كرامتنُا هُمْ أنفسُهمْ مَنْ باعوكَ " البلاي ستيشن" وسلبوا قناعتكَ.

ياولدي .. هؤلاء هُم أنفسهم مَنْ جاءنا بالـ " ديموقراطية " وأخذوا الدربونة

٢٨ مشاهدة٠ تعليق

منشورات ذات صلة

عرض الكل

إنضم لقائمة البريد الالكتروني لتصلك كل الاخبار

bottom of page