المتابع والباحث لما يحدث من حرب اقتصادية شعواء سرية وعلنية لم يسبق لها مثيل على الأقل في العقود السبعة الأخيرة بين أكبر اقتصادين في العالم الولايات المتحدة والصين على التوالي سيجد إن هناك تقارب في الأهداف مع اختلاف وجهات النظر ولإيجاد هذه التقاربات والتنافرات علينا أن نبحث ونركز على التالي:
أي حرب تجارية نتائجها كارثية فقد تنتج حربا عسكرية فعليا كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية فقد كانت أسباب اقتصادية بحتة ونعيش الأن أجواء مشابهة تماما.
بتفاؤل مطلق قد يتجنبون حربا عسكرية على الأقل فوق أراضي العالم الأول (أوروبا – أسيا – الولايات المتحدة) لما لمسه كل طرف من إن الكارثة والخسائر ستطال الجميع سواء رابح أو خاسر وكل الأطراف لا تريد تهديم ما بنته بعد الحرب العالمية الثانية لكن المؤكد انهم لن يستطيعوا تجنب حرب اقتصادية ستاتي على أموال طائلة وعلى مصانع وشركات ضخمة قد تكون نهايتها مأساوية بل أكثر سوءاً مما حدث إبان الأزمة الاقتصادية عام 2008.
هناك أرباح من أي حرب تجارية وهذه الأرباح لا توزع بالتساوي بين الأطراف أبدا وليس بالضرورة هناك طرف واحد رابح من هذه الحرب فقد يكون هناك رابحين وقد يربح الكل لكن يبقى السؤال الأهم. . على حساب مَنْ!
الكلف الإنتاجية هي برأيي محور الصراع وإلا لما غزت الصين العالم وأصبحت تسمى مصنع العالم! فالسر معروف ومكشوف لكن مجابهته قد تكون ضربا من المستحيل فقد تخلت الصين عن فكرة الشيوعية وحوّرت نظرتها العتيقة الماوية المنغلقة إلى نظرة وسياسة بديلة تختلف كليا عن أي اتجاه شيوعي وبقيت الصفة الشيوعية فيها فقط لأنها إرث ونظام حكم لا أكثر.
لا تستطيع الدول الرأسمالية خصوصا الولايات المتحدة أن تتهم الصين بخرق مقررات منظمة التجارة العالمية فكل الأطراف خرقوا هذه المقررات بصيغ مختلفة وكل الأطراف قدموا الدعم المادي المباشر للمستثمرين داخل دولهم إبان الأزمة المالية العالمية فلا يستطيع أحد أن يوجه إصبع الاتهام للصين وحدها رغم إن الصين نظامها الرسمي يقوم على أساس دعم الشركات وليس نظام رأسمالي بحت.
الصين حولت مشكلتها السكانية إلى أرباح وسيطرة اقتصادية. لقد حولت شعبها إلى جيش صناعي غزت العالم به بدل أن تغزوه بأسلحة وجنود وطائرات بل هي لم تملك حاملة طائرات إلا قبل اقل من خمس سنوات وكانت هدية من روسيا وهي حاملة طائرات قديمة مستخدمة وتم تجديدها من قبل الصين وبخبرات روسية ثم الأن بدأت الصين تبني حاملة طائرات أخرى بسواعد صينية وهذه أول خطوة للصين باتجاه الدفاع عن نفسها خارج الحدود منذ مئة عام تقريبا بل وغيرت قبل أيام من عقيدتها العسكرية وهذا مؤشر قاطع بلا أدنى شك أنها تتوقع تهديد عسكري فعلي أو ضغط عسكري من قبل الولايات المتحدة في المستقبل.
الصين جاذبة للاستثمار وجاذبة للعمالة رغم عدم احتياجها للعمالة فهي تملك أكبر ثروة بشرية في تاريخ البشر وفي نفس الوقت أصبحت كبرى اقتصاديات العالم خصوصا مجموعة السبعة الكبار طاردة للعمالة بسبب قوانين الهجرة والإقامة والتي بدأت تؤثر أيضا على قوانين الاستثمار فقد تأثرت مستويات الاستثمار فعليا في هذه الدول مثل أمريكا وبريطانيا وحتى المانيا لأسباب كثيرة أهمها صعود اليمين المتطرف الذي لا يرى في المهاجرين إلا مصدر تدمير ديموغرافي واستنزاف للميزانية.
يتضح مما سبق إن المشكلة هي أسعار المنتجات المعتمدة على أسعار الإنتاج فإذن الحرب التجارية قد تشعل حرب أسعار وهنا لا أقول حرب ستطيح بالأسعار أبدا إنما قد ترفعها فمبدأ فرض المكوس والرسوم والجمارك لن يخفض الأسعار أبدا ولن يمنع تجارة إطلاقا (قد يكون على مدى قصير جدا في بادئ الأمر لكن على المدى الطويل سيفشل ويأتي بنتائج عكسية) وهذا ما سيقود إلى تضخم في الأسعار وتضخم الأسعار يخلق جيلا يتقبل هذه الأسعار الجديدة وقد تكون أسعار مبالغ فيها جدا أي أن الهامش الربحي سيرتفع أكثر مما كان عليه قبل الحرب التجارية على سبيل المثال بعد أن انهارت أسعار الهواتف الخلوية لشدة المنافسة عاودت الارتفاع بشكل عالي منذ دخول عصر الهواتف الذكية رغم إن كلف الإنتاج لم تتغير كثيرا لكن الارتفاع كان نتيجة حرب تجارية في هذا الاختصاص رغم المنافسة الشديدة.
تدعي الولايات المتحدة وتخطط بان تقلل من إنتاج بضائعها في الخارج وأيضا تقليل الاستيراد ظنا منها أن هذا سيوفر فرص عمل أكثر في الداخل لأنه سيشجع الصناعة المحلية وهذا إلى حد معين صحيح لكن سيقلل من تجارة وقوة الطلب على الدولار في الخارج بشكل كبير بل وخطير فالطلب سيقل عليه والولايات المتحدة حتما ستستورد الكثير من المواد الأولية والتكميلية من الخارج وهذا سيكون مكلفا أكثر إذا ما انخفض الطلب على الدولار أو هبطت قيمته.
لنتخيل لو أن الصين رضخت أو خسرت الحرب التجارية وقل تصديرها للولايات المتحدة الأمريكية وهي أكبر سوق منفردة للبضائع الصينية في الوقت الحاضر ألا يعني هذا إن الدولار سيقل الطلب عليه من قبل أكبر الأسواق في العالم وهي الصين؟
الصين تعلم علم اليقين بان السوق الأمريكي وحده لا يكفي وان لم تفكر أمريكا بكبح جماح التنين الصيني في السوق الأمريكي، فالاقتصاد الصيني يعول على النمو والنمو لا يكون بنفس الوتيرة في الاعتماد على سوق واحدة مهما كبر حجمه بل يعتمد على الانتشار وهنا تبرز معضلة بل كارثة محدقة بالاقتصاد الأمريكي فالمصانع الأمريكية معروف عنها بسوء سمعتها التصديرية والتسويقية وهذه عادة اكتسبها المُصنع والتاجر الأمريكي منذ عقود نظرا لاعتماده على السوق المحلية الواسعة فخسر الكثير من الثقة في الخارج.
الصين تنتشر بقوة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا إضافة إلى أسيا فلن يوقف نموها خسارة السوق الأمريكي إطلاقا بل الخاسر الأكبر سيكون هو الاقتصاد الأمريكي الذي شيئا فشيئا صار يتجه نحو المحلية رغم إن في أمريكا عمالقة الاقتصاد الرقمي واقصد شركات كأمازون وفيس بوك وغوغل لكن هذه الشركات باتت تواجَه بقوانين صارمة وغرامات فلكية في الخارج لأنها انتهكت قوانين الخصوصية بل وحتى قوانين تجارية في دول أخرى خصوصا في أوروبا وكل المؤشرات تدل على إن مستقبلها غير مضمون إطلاقا بل صرح اغنى رجل في العالم صاحب موقع أمازون جيف بيزوس بان شركته قد تفلس في يوم ما ونتائج شركة ابل أيضا لا تبشر بخير على مدى العقد القادم بأقصى تقدير في المقابل فان موقع مثل علي بابا يكتسح سوقا عالميا كانت في يوم ما لصالح أمازون برمتها واضعين في الاعتبار إن الصين تغلق سوقها أمام فيسبوك وهددت مرارا بغلقه أمام غوغل منذ عام 2008.
كبار المستثمرين ورجال الأعمال مثل بل غيتس و وارن بفت يتوقعون أزمة اقتصادية في غضون سنتين وستكون أكبر من أزمة عام 2008 بكثير وهؤلاء لديهم مستشاريهم المرموقين ونظرتهم للأمور واقعية ودقيقة أكثر من أي شخص ثاني فهم يجلسون على قمة الهرم ويرون كل شيء بل قد يرون ما لا نرى لذلك توقعاتهم يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار بل على أنها واقع لا مفر منه.
مناورة
الاجتماع القادم يوم الأول من ديسمبر القادم سيكون عبارة عن مأدبة عشاء في العاصمة الأرجنتينية بوينس إيرس سيحضره الرئيس الامريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جينبينغ قد يرسم الملامح الأولية لاقتصاد العالم أو قد يكون فيه القول الفصل في الكيفية التي ستكون عليها الحرب الاقتصادية القادمة بين العملاقين.
ترامب استبعد من الوفد المشارك مساعده المخضرم لشؤون التجارة ومدير NTC المجلس الوطني للتجارة في البيت الأبيض والذي يبت كثيرا بل له اليد العليا في الاستشارات التجارية للرئيس الأمريكي؛ الاقتصادي بيتر نفارو مهندس الحرب الاقتصادية ضد الصين وصاحب كتاب "الموت بواسطة الصين" Death by China وكتب أخرى يحذر فيها من الخطر الصيني، استبعاد نفارو فيه إشارة قد تكون إيجابية لبيان حسن النوايا في إيجاد خارطة طريق لهذه الحرب المتوقعة بين الطرفين لكن في نفس الوقت يضم الوفد وزير التجارة ويلبر روس وهو لا يختلف كثيرا عن بيتر نفارو في أفكاره وتوجهاته فكلاهما في خندق واحد في نهاية الأمر ويضم أيضا جون بولتون الغير ودود للصين أو أي عدو للولايات المتحدة بالإضافة إلى مايك بومبيو وزير الخارجية ووزير الخزانة مينوتشين والسفير الأمريكي في الصين وأيضا الممثل التجاري الأمريكي أي انهم وفد يتهيآ لحرب تجارية قادمة يحاولون نزع فتيلها لكن كل طرف يريد أن يكون هو من ينزع الفتيل وليس غريمه.
الحرب التجارية قادمة لا محالة فلا يمكن لمنافسين شرسين أن يتفقا على كبح جماح تنافس شركاتهم وأموالهم على نفس السوق فهذا تهريج لكن كيف سيكون شكل هذه الحرب ونتائجها!
الوفد الأمريكي يضم جون بولتون مستشار الأمن القومي ووجوده ليس تجاريا بقدر ما هو امني فبالتأكيد ستُطرح مسالة انتهاك الملكية الفكرية والتي تجيدها الصين ببراعة بل وصلت المواجهات بين الطرفين إلى داخل الدول المجاورة مثل كندا فقد سرقت الصين تكنولوجيات ثمينة وواعدة بطرق معقدة جدا وصلت حد تقديم رشى وإغراءات باهضه الثمن لموظفين ومخترعين داخل شركات أمريكية لغرض نقل التكنولوجية للصين وتدخلت المخابرات الأمريكية ومكتب التحقيقات الفدرالية في المطاردات ولم تنتهي ليومنا هذا ولن تنتهي مادام التنين متعطش للسيطرة التكنولوجية فهي تغذي انتشاره ونموه الاقتصادي يعتمد كليا على الانتشار لذا فإن حربا تجارية ضروس ستستعر لا محال.
Comentários